عجيبة جدًا الذاكرة البشرية هذه! مراوغة ومخاتلة وزئبقية! تضن بلا رحمة وتسخو بلا حد بمزاجها ووفق إرادتها! تقرأ كتابًا أو تحضر ندوة أو تجابه بسؤال وتظن أنك استوفيت الإجابة وأتممت القراءة وكان الله بالسر عليمًا! ساعات قليلة وتخلو إلى نفسك في هويد الليل تتوسل النوم سويعات قبل البدء في دورة جديدة من الساقية التي ربطنا فيها بلا رغبة وبلا استئذان منذ الميلاد وحتى الرحيل!
أويقات تسطع في سقف الحجرة المظلمة شاشةٌ هلامية بلا أزرار ولا كهرباء ولا ريموت! ترى كل شيء بوضوح ونصوع يتخايل أمامك كالعرائس المبدعة في تراث خيال الظل.. يا ربي ماذا يحدث لي وماذا أرى وماذا وماذا وماذا؟؟ وبدون إنذار ولا استئذان تتدفق الذكريات كالسيل، هويس وانفتح ولا راد له ولا لمشيئته!
هكذا، وبدافع قوي من مشاركتي مؤخرًا في حفل إطلاق وتوقيع كتابٍ أظنه مهمًا وفارقًا في تكوين ومسيرة أبناء جيلي خاصة في سنوات التفتح الأولى من العمر (من سن السابعة وحتى المراهقة على تفاوتات في الامتداد الزمني طولًا أو قصرًا)، أقصد كتاب «بوب فيكشن ـ كيف غيرت روايات الجيب حياتي» للكاتب المبدع أحمد عبد المجيد، والصادر أخيرًا عن دار الرواق للنشر والتوزيع.
الموضوع ببساطة أن هذا الكتاب يروي من منظور مؤلفه وابن جيلي (مواليد أواخر السبعينيات ومطالع الثمانينيات) قصتنا وحكايتنا مع «روايات الجيب» و«كتب الجيب» التي لعبت أخطر الأدوار في بدايات رحلتنا مع القراءة، شأننا في ذلك شأن غيرنا من الأجيال الأسبق منذ نجيب محفوظ، وما قبله وما بعده! هذه العتبة السحرية التي لا فرار منها ولا محيص عنها تقريبًا لكل من خاض هذا الطريق وبدأ هذا المشوار وسلك هذه الرحلة، والتي ندعو الله أن نظل متنعمين بذكراها واستدامة طعم حلاوتها في حلوق ذاكراتنا، وفي استدعاءاتنا النصية والبصرية والسمعية، بالرغم من أن منا من يشارف الخمسين الآن!
لن أعيد ما قلته أو ذكرته في الندوة، لكنني ودون أن أقصد وبانجراف لا أتحكم فيه، تذكرت، أو قل — عزيزي القارئ إن شئت الدقة — ما أملته علي الذاكرة بتدفق وانسيال ممتع كانت مشكلته الوحيدة كيف أسيطر على هذا الحشد المذهل من الذكريات والتفاصيل والكتب والأحداث والوقائع التي ارتبطت بحياتي وبالوطن وبالعالم الذي كنت أحيا فيه وأحاول استكشاف معالمه وعلاماته منذ كنت في السابعة من عمري (أواسط الثمانينيات) وحتى دخولي الجامعة في النصف الثاني من التسعينيات!
مرحلة القراءات المبكرة والبدايات الأولى حاضرة وبشدة! لكن لأهميتها وتأسيسيتها وغزارة تدفق تفاصيلها تستدعي التأني والتمهل للسيطرة على هذا الكم وتنظيمه سرديًا كي يليق بوقتك وقراءتك، صديقي القارئ الكريم.
لكن من أهم ما فاجأني أنا شخصيًّا، وذهلت من حضور هذه التفاصيل بهذا الوضوح الآن، وأنا في نهاية الأربعينيات من عمري، تلك المشاهد الحية المتحركة النابضة من تعرُّفي الأول على كتب خارج دائرة المتعة والتسلية والجيب، الكتب التي ارتبطت بموضوعات غير خيالية (أو ما نسميه بالمصطلح الحديث نون فيكشن).. أو سمه إذا شئت مطالعات خارج السياق! نحن نتحدث عن كتب في التاريخ الوسيط والحديث، وعن تاريخ حرب أكتوبر، بعضها يصل حجمه إلى ما يزيد على 400 صفحة!!
ولشد ما تعجبتُ وأنا أتذكر أن أول كتاب يصافح عيني، وفيه وفرة لافتة من المعلومات والتفاصيل عن حرب أكتوبر 1973 — مثلًا — كان كتاب صبري موسى ذائع الصيت «السادات الحقيقة والأسطورة»، وهو كتاب ضخم صدر في سبعينيات القرن الماضي، وطبع طبعات عدة وكان يوزع لدى باعة الجرائد والمجلات آنذاك، ومن واحدة منها اقتنيته وأنا في الصف الخامس الابتدائي، اشتريته بجنيه واحد، وهو مبلغ لو تعلمون عظيم ومهول وضخم (نحن نتحدث عن العام 1987 تقريبًا).
أما الكتاب الثاني الذي اشتريته بالقيمة ذاتها أو زاد عليه النصف، فكان (ولا تتعجب ولا تندهش أبدًا عزيزي القارئ، فسأقص عليك الحكاية بتمامها وستزول أي دهشة بعد ذلك، أعدك وعدًا صادقًا!) «ماهية الحروب الصليبية» للدكتور قاسم عبده قاسم، الذي حدثتك عنه سابقًا، وسيكون لنا معه أحاديث أخرى تالية! كان هذا الكتاب صادرًا عن سلسلة ثقافية مشهورة جدًا هي سلسلة (عالم المعرفة) الكويتية؛ وأي أيادٍ بيضاء أسدتها تلك السلسلة العظيمة لأبناء العربية!
سأبدأ من هذه المحطة؛ لأنها ارتبطت ارتباطًا وثيقًا ببراءة وسذاجة صبي لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره بعد، ويقرر بكامل إرادته أن يضحي بكل ما ادخره على مدى شهور طويلة لشراء كتاب عن الحروب الصليبية! لماذا؟
قبل أن أجيب لا بد أن أروي الحدث كاملًا كما سطع في الذاكرة، من بدايته وحتى النهاية: كنت في نهاية السنة الأولى تقريبًا من المرحلة الإعدادية، عندما استلفتني عند بائع الجرائد الذي يفرش بجوار المدرسة، كتابٌ أبيض اللون بخطين أحمرين، يتوسطه العنوان بالأسود، ورغم أني أهلاوي صميم، إلا إن العنوان شدني للغاية: «ماهية الحروب الصليبية» (العدد رقم 149 من سلسلة عالم المعرفة الكويتية العظيمة).
الحروب الصليبية كانت تعني في ذهني في ذلك الوقت فيلم «الناصر صلاح الدين» الذي كنت أنسى الناس والدنيا وما فيها وأنا أشاهده بتلذذ واستمتاع خياليين.. صحيح أنني لم أتجاوز الصفحتين قراءة ولم أفهم شيئًا، ولم أعِ ما معنى ماهية الواردة في العنوان.. لكنني أدركت أن هناك شيئًا كبيرًا وخطيرًا اسمه التاريخ، ويبدو أنه ليس محض حكايات وقصص كما كان يبدو لي آنذاك!
قرأت كلمة التعريف المدونة على ظهر غلاف الكتاب؛ التي جاءت كما يلي:
«الحركة الصليبية حركة استعمارية استيطانية، تمثل السابقة الأوروبية الأولى لمحاولة استعمار العالم العربي، وضرب الإسلام تحت راية الدين المسيحي، وتحت شعار الصليب، وتذكرنا أطوارها ودوافعها ونتائجها بالحركة الاستيطانية الصهيونية التي تتخذ من الدعاوى التاريخية/ الدينية مبررًا لها. وهذا الكتاب يحاول رسم صورة شاملة لحقيقة الحركة الصليبية بدءًا من الأيديولوجية التي أفرزتها، والدوافع التي حركتها، وصولًا إلى تأثيراتها السلبية في العالم العربي، وفي الحضارة العربية الإسلامية بوجه عام. ولا يحفل الكتاب كثيرًا بالتفصيل والأحداث والوقائع بقدر ما يقدم رؤية متكاملة عن هذه الظاهرة التاريخية الفذة، وما نتج منها من استجابات. والكتاب يخاطب القارئ المثقف العام، كما يخاطب المتخصصين أيضًا».
بالجملة، كان الكتاب مدخلًا مركزًا وعميقًا لما عرف في تاريخ العصور الوسطى بالحملات الصليبية؛ ولأن الحركة الصليبية — التي استمرت أحداثها فوق الأرض العربية قرابة قرنين من الزمان — كانت ولا تزال من المنعطفات التاريخية المهمة في تاريخ الغرب الأوروبي والعالم العربي الإسلامي على السواء، فقد ظلت — ولا تزال — تحكم توجهات رجال السياسة والمفكرين في العالم الأوروبي الأمريكي في تعاملهم مع العرب والمسلمين حتى اليوم.
ولأن العالم العربي الإسلامي عانى من هذا العدوان المتسربل برداء الدين، فإن كتاب الدكتور قاسم حاول أن يقدم للقارئ العربي صورة صحيحة ومتكاملة عن هذه الحركة بعيدًا عن المبالغات العاطفية، أو التهويمات والتعميمات التي قد تتسبب في حجب الحقيقة التاريخية عن القارئ. والكتاب يحاول ذلك كله في أسلوب عربي سهل لا ينال من الحقائق التاريخية، ولا ينقص من قدر القيمة العلمية للبحث التاريخي.
كانت كل كلمة لم أفهم معناها آنذاك تعني سؤالًا، وتعني بحثًا حقيقيًا، وتعني اكتشافًا، وتعني اكتساب معرفة جديدة؛ فكان الكتاب بالنسبة لي أكبر بكثير جدًا من مجرد كتاب في التاريخ لم أستوعبه في قراءتي الأولى له، لكنه صار تحديًا كبيرًا أواجهه كل فترة فيتكشف لي ما لم أدركه في المرة السابقة؛ وشيئًا فشيئًا أصبح الكتاب، من كثرة معاودتي له وقراءتي إياه ومطالعتي فيه، محفورًا في ذهني وقلبي معًا.
واستقر في وجداني وترسخ في عقلي شيئان لم يغادرا وعيي حتى الآن: أن هناك سلسلة كتب عظيمة اسمها «عالم المعرفة»، لم أنقطع عن متابعتها (إلا بانقطاعها هي عنا مرتين؛ الأولى عام 1990 بسبب الغزو العراقي للكويت، والثانية في عام 2010 أو 2011 لا أذكر بالدقة، ثم عاودت الصدور مرة أخرى بانتظام منذ هذا التاريخ وحتى شهر مارس 2020 (قبل حظر جائحة كورونا اللعين).. وما زالت تنتظم في الصدور رغم تأخرها الملحوظ في وصول أعدادها بانتظام إلى مصر).
والأمر الثاني أن هناك مؤلفًا ومؤرخًا كبيرًا جدًا جدًا اسمه قاسم عبده قاسم؛ سيكون من حظي أن أتشرف بلقائه ومعرفته، والحديث إليه والتسجيل معه، وأكتشف أن له سلسلة تسجيلات صوتية مذهلة يحكي فيها تاريخ مصر في العصور الإسلامية بإمتاع فائق، كانت مسجلة على شرائط كاسيت في تسعينيات القرن الماضي، كما سيكون من حظي أن أظفر بحوار مطول معه من أهم الحوارات التي أجريتها في مسيرتي الصحفية كلها…
(وللحديث بقية إن شاء الله)